د/ سعد العتيبي
السلام عليكم
سؤال : شيخي الفاضل أنا شاب من (……) وخريج كلية الحقوق ولعلمكم فإن أغلب القوانين في بلدي وضعية لا صلة لها بما أمر الله ورسوله إلا في قوانين المواريث وبعض العقود .
فما حكم عملي لدى محامٍ كمساعد إداري أي يحضر ملفات القضايا وأحملها إلى المحاكم لتوثيقها ؟
الجواب :
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد
فإنَّ هذا الموضوع من الموضوعات التي تنطلق من ثوابت عقدية ، وتحكمها أصول فقهية عملية ، وهي مما عمّت به البلوى في التعاملات الواقعية ، ومن ثم ظهر فيه الإشكال وكثر عنه السؤال .
وحيث إنَّ المسألة لها صور كثيرة ، والسائلون عنها من ذوي الثقافة القانونية والفقهية ، فلعلّ من المستحسن أن ينطلق الجواب على السؤال من ذكر الأصول والأحوال ، التي ينبغي النظر إليها في مثل هذه الحال وربط جزئيات المسألة بها .
فأولاً : من المتقرِّر في العقيدة الإسلامية : أنَّ الشرع الذي يجب تطبيقه في بلاد المسلمين وبين المسلمين في غير بلادهم ، هو شريعة الله تعالى ، التي خدمها بيانا وتوضيحا وتفريعا العلماءُ الربانيون من أهل الإسلام . وأنه لا يحلّ الحكم بقانون وضعي مخالف لشريعة الله تعالى ؛ فلا يشرِّع للخلق إلا من خلقهم ، وهذا ما يجب أن يكون ( ألا له الخلق والأمر ) . وهو أمر لا يستدعي الإطالة فيه لظهوره ولله الحمد والمنّة ، وما هذا السؤال إلا فرع عن العلم به وصحة الاعتقاد فيه .
ومن ثمّ فإنَّ ما ابتليت به عامّة الشعوب المسلمة في حاضر العالم الإسلامي اليوم وغيره ، من إلزامها بالتحاكم إلى قوانين مستوردة أو موضوعة على غير هدى من الله ؛ إنَّما هو إلزام للأمة بغير شرع ربِّها ؛ وإن بقيت موضوعات محدَّدة كقوانين الأحوال الشخصية التي أشرتَ إليها في سؤالك على ما قرّره فقهاء الإسلام أو بعضهم ، فإنَّها لم تسلم أيضاً من امتداد القانون الوضعي إليها ، بخلفياته الفكرية التغريبية المقيتة ، كإباحة اتخاذ الأخدان ، مع منع التعدد ، وجعل الطلاق في يد المرأة ، ومناصفتها للرجل في ماله في بعض بلاد المسلمين .
وثانياً : من المتقرِّر عند من يُسمّون بالحقوقيين ، أنَّ مجال ط§ظ„ظ…طط§ظ…ط§ط© ليس مقصوراً على الوكالة في الخصومة ومساعدة الخصوم على تجهيز دفاعهم والترافع عنهم فحسب ؛ فمجالات المحاماة بإجمالٍ تشمل : المشورة القانونية ، والنصيحة للرعية ، والصلح بين النَّاس ، ودفع مظالم السلطات العامّة ، والإنهاءات ، وصياغة العقود ، والمشاركة في وضع مشروعات النظم واللوائح وسنّ القوانين ، والطعن في الأحكام الظالمة لتصحيحها دستوريا ، وغير ذلك من ط§ظ„ظ…ط¬ط§ظ„ط§طھ المعروفة لدى أهل الشأن ، مما لا يخفى على السائل وفقه الله .
ومع أنَّ الأصل في القوانين الوضعية منع وضعها ومنع إلزام الناّس بالتحاكم إليها على ما تم تقريره في الفقرة السابقة ، إلا أنَّ القوانين الوضعية العقلية ، لا تخلو من موافقة للشرع أو عدم مخالفة له ؛ وهذا يشمل ما كان مصدره الشرع من حيث الأصل ، كقوانين الأحوال الشخصية ، أو كان الشرع مصدراً له عند عدم النص ، أو لم ينظر عند تقنينه أو الحكم به إلى الشرع ، لكنه ليس مخالفاً لحكم الشرع ، أو كان موافقاً لرأي فقهي سائغ ، جرى عليه العمل في بلد من بلاد المسلمين ، أو كان مما يندرج تحت قاعدة شرعية توافق معها القانون فيه ، كعدد من صور العقود التي تعتمد قاعدة القانونيين : ( العقد شريعة المتعاقدين ) إذا كانت قد وقعت على صورة صحيحة شرعاً ، وهكذا بقية فروع القانون لا تخلو من حق ، وإن اختلف ذلك من حيث القلة كما في القوانين الجنائية والجزائية أو كثرة كما في القوانين المدنية و الإدارية .
وثالثاً : أنَّ كلَّ ما وافق شرع الله جلّ وعلا فهو منه ، وكذلك كلّ ما لم يخالف شرع الله تعالى فهو منه ؛ فالمشروع بالنصِّ أو موافقة التقعيد الإسلامي الصحيح ، لا يجوز نفي مشروعيته ، ولو كان في صيغة قانون وضعي أو حكم وضعي ، وهذا من خصائص الشريعة الإسلامية المنبثقة عن شمولها وسموها ومرونتها وصلاحها لكل عصر ومصر وحال ؛ فالقوانين الوضعيـة ، منها ما يكون مندرجاً تحت ما يعرف بالسياسة العقلية ؛ وهي سياسة لا تخلو من حق ، سواء كانت في صيغة تقنينٍ محرّرٍ لا يخالف قانون العدل الإسلامي المتمثِّل في الشريعة الإسلامية ، أو كانت في شكلٍ منظّمٍ لا تأباه أصول الشريعة وقواعدها ؛ وما كان كذلك ، فإنَّه مندرج في الشريعة ، وإنْ حرّره أو تفوَّه به من ليس من أهلها ؛ فالسياسة العادلة من الشريعة ، وإن صدرت من غير المسلمين ؛ فهي من جهة المشروعية معتبرة ؛ ومن ثم تكون مجالاً قابلاً للإفادة منه فيما يحقق العدل الإسلامي .
قال ابن القيم رحمه الله تعالى : " السياسة نوعان : سياسة ظالمة ، فالشريعة تحرمها ؛ وسياسة عادلة تخرج الحق من الظالم الفاجر ؛ فهي من الشريعة ، عَلِمَها من عَلِمَها وجَهِلَها من جَهِلَها " ( الطرق الحكمية : 5 ) . و قال : " لا نقول : إن السياسة العادلة ليست مخالفة للشريعة الكاملة ، بل هي جزء من أجزائها وباب من أبوابها ، وتسميتها سياسة أمر اصطلاحي ، وإلا فإذا كانت عدلاً فهي من الشرع " ( إعلام الموقعين : 4/373 ) .
وعليه ؛ فإنَّ ما وافق الشريعة من القوانين الوضعية وكذلك ما لم يخالف شريعة الله تعالى من نصوص أو قواعد فهو منها عند التحقيق ، لا ينبغي الوقوف منه ذات الموقف مما خالف شريعة الله عز وجل ، وإن لم يكن مأخذه عند واضعه مأخذاً شرعياً ؛ وعليه فإنَّ للمحامي ومن يعاونه : أن ينوب في الخصومة ويعمل في غيرها من أعمال المحاماة التي لا مخالفة فيها للشرع ، وإن كان موضوع الخصومة مقنناً بمعزل عن مراعاة موافقته للشريعة أو عدم مخالفته لها – ما دام أن المضمون لا يخالف الشرع .
ورابعاً : أنَّ التنازع بين النَّاس أمر واقع لا محالة ، ولم يخل منه عصر أو مصر ، ولو تَرك أهل الحقوق حقوقهم للظلمة أو الجهلة ؛ عجزاً عن استيفائها أو استردادها ، لوقع الناس في هرج ومرج . ومن ثم فلا بد من فصلٍ في التنازع ؛ فيلجأ الناس ضرورة للتحاكم إلى القوانين الوضعية ، إذا لم يكن لهم خيار لهم سواها . فكان النّاس ما بين طالب يدّعي إليها أو مطلوب يُدّعى عليه أمامها .
ولا شكّ أنَّ وجود حكم ما ، يحفظ قدراً من العدالة ويرد لهم حقوقهم أو بعضها ، أقلُّ ضرراً على النّاس من بقائهم فوضى دون حكم .
ومن ثمّ فلا حرج على المحامي المسلم المستقيم ، أن يستلم قضية خصومة لا يعرف مدى مشروعيتها بداية ، ولا حرج على غيره في إعانته على ذلك ، بشرط أن يتوقف عملهما فيها على نتيجة دراستها ، فإذا تبيّنت حقيقتها ؛ فإن كانت مشروعة لزمه المضي في القضية إن كانت بعوضٍ ، وإن كانت غير مشروعة توقف عند نتيجة دراستها ، وحرم عليه وعلى معاونيه المضي فيها مع علمهم أنَّها مبطلة ، ويحق له أن يتقاضى عوضاً عن دراسة القضية فقط إذا اقتضاه العرف أو اشترطه .
وخامساً : أنَّ من عمل في وظيفة فيها ظلم من أجل رفع الظلم أو تخفيفه عن النّاس ، فلا حرج عليه ، ولو اقتضى منه ذلك إبقاء شيء من الظلم الأخف ، ما دام قصده دفع الظلم الأشد ولا طريق إلى تخفيفه إلا بذلك ؛ لأنَّه حينئذٍ يكون معيناً للمظلوم على رفع الظلم أو تخفيفه عنه ، وليس معيناً للظالم على ظلمه .
وهذه من أعظم قواعد السياسة الشرعية التي حرّرها المحققون من علماء الإسلام ، ومنهم أبو العباس ابن تيمية رحمه الله إذ يقرِّر أنَّ : " المعين على الإثم والعدوان ، من أعان الظالم على ظلمه . أمّا من أعان المظلوم على تخفيف الظلم عنه ، أو على أداء المظلمة ، فهو وكيل المظلوم ، لا وكيل الظالم " ( التعليق على السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية [ المتن ] : 149 ) . وهي قاعدة شرعية من دقائق الاستنباط من قواعد المقاصد ، وهي مقتضى العقل الصحيح ، ولذلك يرتضي المظلومُ وقوع هذا التصرف ويشكر فاعله متنازلا عن مطالبته بشيء مما نقصه ، لكونه قد أحسن إليه بإعانته في استرداد بعض حقه .
ومن رحمة الله بخلقه أنَّ لصاحب الحق أن يأخذ حقَّه ، ولو بالظفر به ، كما أنَّ له أن يأخذ بعض حقه إن لم يستطع أخذه كلّه ، وهذا الحق قد يكون أمراً يطلبه من غيره ، أو آخر يدفعه عن نفسه .
وسادساً : أنَّ حكم المحاماة والإعانة عليها يتعلق بأمرين رأيسين : أولهما : مشروعية موضوع المحاماة أو عدمها . وثانيهما : مشروعية الحكم المنتظر فيه أو عدمها . وهذان الأمران يتطلبان فقهاً شرعياً بالواقعة . فإذا وجد ذلك فلا حرج في امتهان المحاماة أو الإعانة عليها فيما لا محظور فيه .
فإذا كان موضوع المحاماة أو الخصومة مشروعاً ، كطلب استيفاء حقٍ مالي مشروع أو دفع دعوى باطلة ، فلا حرج في امتهان المحاماة فيها ، وقد يؤجر على ذلك إذا كان صاحب الحق ضعيفا لا يقدر على الدفاع عن نفسه أو تحصيل حق ، ومما يدل لذلك قول الله عز وجل : ( فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْل ) ، و مفهوم قول الله عز وجل : ( وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً ) ، إذ يفيد أن الخصومة لغير الخائنين ليست محلاً للنهي ، وما ليس محلّ نهي فهو جائز ، كما أنَّ الأصل في الشريعة الإسلامية : جواز التعاون على ما كان برَّاً ، ، كما في قول الله سبحانه : ( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ) وردّ الحقوق إلى أصحابها ، ودفع الظلم عن المظلومين مجال من مجالات البرّ والتقوى لمن أخلص وعلم فعمل .
وإن كان موضوع المحاماة والخصومة غير مشروع ، كالمطالبة بفوائد ربوية ، أو توثيق عقارٍ مغتصبٍ ، وصياغة عقد استيراد بضائع محرّمة شرعاً ، أو كانت البيِّنات والحجج باطلة ، أو الوثائق المستند إليها مزورة ، لم يجز له المضي فيها ؛ لجملة من الأدلة ، منها قول الله عز وجل : ( وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً ) ، والأصل في الشريعة الإسلامية : منع التعاون على ما كان إثماً ، كما في قول الله عز وجل : ( وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) .
وسابعاً : أنَّ مشروعية إقامة العدل في الجملة ، لا تتوقف على وجود حكم إسلامي المضمون والإجراء ، ولا العيش في ظله بالضرورة ؛ فإنَّ العدالة حق مستَحَق ؛ فالترافع أمام المحاكم التي تحكم بالقوانين الوضعية لأخذ الحق ودفع الظلم في المجتمعات الإسلامية وغيرها ، أمر لا حرج فيه على المظلوم ولا على المحامي الذي ينوب عنه في دفع الظلم ؛ لأنَّه لا سبيل له إلى تحصيل حقِّه إلا بذلك ، وإنما الإثم والوزر على من قرّر الحكم بالقوانين الوضعية ، وألزم الناس بالحكم بها والتحاكم إليها ، وعلى من استند إلى تلك القوانين في إقرار ظلم أو دفعٍ عن مبطِل .
كما أنَّ مجالات المحاماة مجالات واسعة ، ومنافذ إصلاح سلميّ شرعي متقدِّمة ، ومنها ما قد يرقى إلى درجة الوجوب على من تعيّن عليه التغيير برؤية المنكر وقدرته على تغييره بالوسائل المتاحة . وكون المحاماة وسيلة تغيير سلمي فاعلة ، أمر تفطن له أعداؤنا من اليهود ، وأكّدوا أهميته ونصّوا على ذلك فيما يعرف ببروتوكولات حكماء صهيون !
والواقع يؤكِّده ، فالمحامي حين يصوغ عقداً من العقود صياغة شرعية ، مفيداً من قاعدة القانون في العقود ( العقد شريعة المتعاقدين ) فإنَّه يساهم في تصحيح عقود النَّاس وتوجيههم للصيغ المشروعة ، وتحذيرهم من غيرها ، فلا يعقد إلا عقدا مشروعا ، ولا يصوغ إلا صياغة شرعية ، وإذا ما وقعت خصومة فيه كان مدافعا عن عقد مشروع .
وكذلك ما نلمسه من أثر قوي للمحامين الأمناء في المساهمة في إلغاء أو تعديل بعض القوانين الجائرة ، وفي نصرة المظلومين من المستضعفين ، وفي تحقيق مطالب شعبية إسلامية بطرق سلمية باقية نافعة .
ومن ثمّ فقد يكون في ترك هذه المهنة من أهل العلم بها والخير والصلاح ، ترك لمجال تعيّن عليهم الإصلاح فيه و به ، فرادى كانوا أو جماعات من خلال نقابات المحامين مثلا ، ولا سيما أنَّ رفع المظالم عن النّاس يتطلب وجود محامين أمناء على علم بالشرع ودراية بالواقع .
وخلاصة القول : أنَّ حكم عملك لدى محامٍ كمساعد إداري ، يحضِّر ملفات القضايا ويحملها إلى المحاكم لتوثيقها ، يرتبط بحكم ما تحضِّره وتوثّقه ؛ فإن كان مشروعاً في الشريعة الإسلامية فعملك مشروع ، وإن كان ما تحضِّره وتوثّقه مما ليس مشروعاً في الشريعة الإسلامية ، وسعيك فيه يقرِّر مشروعيته ، فإنَّه لا يجوز لك العمل فيه ، وإن كان صحيحاً من الناحية القانونية .
وليكن معيار عملك قول الله تعالى : ( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) ، وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ( انصر أخاك ظالما أو مظلوما ) .
ولعلّ مما يعينك على ذلك العمل مع محامٍ أمين صالح ، ذي علم بالشريعة ومراعاة لأحكامها إن وجد ، أو مع ذي فقه بالقوة ، أي قادرٍ على بحث ما يشكل عليه شرعيته من المسائل ، أو أن تتعاقد مع من تعمل معه على أنواع معينة من الأعمال والقضايا التي لا يتعارض العمل فيها مع الشريعة الإسلامية .
وفقنا الله وإياك لما فيه رضاه .
هذا ما تيسر بيانه ، والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله .
المصدر : موقع المسلم