عَلِمَ فلان ، و كان شابا من شبان الخلاعة و اللهو ، و قاضيا من قضاة المحاكم ، أن المنزل الذي يجاور منزلة يشمل على فتاة حسناء من ذوات الثراء و النعمة و الرفاهية و الرغد ، فرَنا إليها النظرة الأولى فتعَلّقَها ، فكررها أخرى ، فبلغت منه ، فتراسلا ، ثم تزاورا ، ثم افترقا و قد ختمت روايتهما بما تختم به كل رواية غرامية يمثلها أبناء آدم و حواء على مسرح هذا الوجود .
عادت الفتاة إلى أهلها تحمل بين جنبيها هما يضطرب في فؤادها ، و جنينا يضطرب في أحشائها ، و قد يكون لها الى كتمان الأول سبيل ، أما الثاني فسر مذاع ، و حديث مشاع ، إن اتسعت له الصدور ، لا تتسع له البطون ، و إن ضن به اليوم ، لا يضن به الغد .
ذلك ما أسهر ليلها ، و أقض مضجعها ، و ملك عليها وجدانها و شعورها ، فلم تر لها بدا من الفرار بنفسها ، و النجاة بحياتها ، فعمدت الى ليلة من الليالي السوداء فلبستها ، و تلفعت بردائها ، ثم ألقت بنفسها في بحرها الأسود ، فما زالت أمواجها تترامى بها حتى ألقتها الى شاطئ الفجر ، فإذا هي في غرفة صغيرة في إحدى المنازل البالية ، في بعض الأحياء الخاملة ، و ذلك الجنين المضطرب .
كان لها أم تحنو عليها ، و تتفقد شأنها ، و تجزع لجزعها ، و تبكي لبكائها ، ففارقتها ؛ و كان لها أب لا هم له في حياته إلا أن يراها سعيدة في آمالها ، مغتبطة بعيشها ، فهجرت منزله ؛ و كان لها خدم يقمن عليها ، و يسهرن بجانبها ، فأصبحت لا تسامر غير هذه الوحدة ، و لا تساهر غير الوحشة ؛ و كان لها شرف يؤنسها ، و يملأ قلبها غبطة و سرورا ، و رأسها عظمة و افتخارا ، ففقدته ؛ و كان لها أمل في زواج سعيد ، من زوج محبوب ، فرزأتها الأيام في أملها .
ذلك ما كانت تناجي نفسَها به صباحَها و مساءها ، بكورها و أصائلها ، فإذا بدا لها أن تفكر في علة مصائبها ، و سبب أحزانها ، علمت أنه ذلك الفتى الذي وعدها أن يتزوجها فخدعها عن نفسها و لم يفِ بعهده لها ، فقذف بها و بكل ما تملك يدها في هذا المصير .
فلا يكاد يستقر ذلك الخاطر في فؤادها ، و يأخذ مكانه من نفسها ، حتى تشعر بجذوة نار تتقد بين جنبيها من الحقد و الموجدة على ذلك الفتى ، لأنه قتلها ، و على المجتمع الإنساني ، لأنه لا يأخذ القاتل بجريمته ، و لا يسلكه في سلسلة المجرمين .
و ما هي الا أيام قلائل حتى جاءها المخاض ، فولدت وليدتها من حيث لا ترى بين يديها من يأخذ بيدها ، أو يساعدها في خطبها ، غير عجوز من جاراتها ألمَّتْ بشأنها ، فمشت اليها و أعانتها على أمرها بضع ساعات ، ثم فارقتها تكابد على فراش مرضها ما تكابد ، و تعاني من صروف دهرها ما تعاني .
و لقد ضاق صدها ذرعا بهذا الضيف الجديد ، و هو أحب المخلوقات إليها ، و أكثرهم قربا إلى نفسها ، فجلست ذات ليلة و قد وضعت طفلتها النائمة على حجرها ، و أسندت رأسها الى كفها ،
و ظلت تقول :
ليت أمي لم تلدني ، و ليتني لم أكن شيئا .
لولا وجودي ما سعدْتّ ُ ، و لولا سعادتي ما شقيتُ .
إن كان في العالم وجود أفضلَ منه العدم فهو وجودي .
لقد كان لي قبل اليوم سبيل الى النجاة من هذه الحياة ، أما اليوم فقد أصبحتُ أمّا فلا سبيل .
أأقتل نفسي فأقتل طفلتي ؟ أم أحيا بجانبها هذه الحياة المريرة ؟ .
لا أحسب أن الموت تاركي حتى يذهب بي إلى قبري ، فماذا يكون حال طفلتي من بعدي ؟ .
إنها ستعيش من بعدي ، و تشقى في الحياة شقائي ، لا لذنب جنته ، و لا لجريمة اجترمتها ، سوى أنني أمها .
هل تعيشين أيتها الفتاة حتى تغفري لي ذنب أمومتي حينما تسمعين قصتي ، و تفهمين شكاتي ؟ .
لم يبقَ في يدي يا بنيَّتي من حليي إلا قليل ، سأبيعه كما بعت سابقه ، فماذا يكون شأني و شأنك بعد اليوم ؟ .
محال أن أعود إلى أبي فأقص عليه قصتي ، لأنه لم يبق لي مما يعزيني عن شقاء العيش و بلائه إلا أن أهلي لا يعرفون شيئا عن جريمتي ، فهم يبكونني كما يبكون موتاهم الأعزاء ، و لأنْ يبكوا مماتي خير لي و لهم من أن يبكوا حياتي .
و كذلك ظلت تلك البائسة المسكينة تحدث نفسها تارة ، و طفلتها أخرى ، بمثل هذا الحديث المحزن الأليم ، حتى غلبها صبرها على أمرها ، فأرسلت من جفنيها قطرات حارة من الدموع هي كل ما يملك الضعفاء العاجزون ، و يقدر عليه القانطون اليائسون .
دارت الأيام دورتها ، و باعت الفتاة جميع ما تملك يدها ، و ما يحمل بدنها ، و ما تشتمل عليه غرفتها ، من حلي و ثياب ، و أثاث و رياش ، و لم يبق لها الا قميصها الخَلْقُ و ملْأتها و برقعها ، و لم يبق لطفلتها الا أسمال باليات تنم عن جسمها نميمة الوجه عن السريرة ، فكانت تقضي ليلها شر قضاء ، حتى إذا طار غراب الظلام عن ِمجـْـثـَمِـهِ أسْبَلَتْ برقعها على وجهها ، و ائتزرت بمئزرها ، و أنشأتْ تطوف شوارع المدينة ، و تقطع طرقها ، لا تبغي مَقصِدا ، و لا تريد غاية ، سوى الفرارَ بنفسها من همها ، و همّـُها لا يزال يسايرها ، و يترسم مواقع أقدامها .
أحسب أن عجوزا من عجائز المواخير رأتها ، فألمت ببعض شأنها ، فاقتفت أثرها حتى دخلت غرفتها ، فوَغَلَتْ عليها ، و سألتها ما خطبها ، فأنست الفتاة عند رؤيتها ، و كذلك يأنس المصدور بنفثاته ، و البائس بشكاته ، فأصرحت لها بسرها ، و ألقت إليها بخبيئة صدرها ، و لم تترك خبرا من أخبار نعيمها ، ولا حادثا من حوادث بؤسها ، لم تحدثها به ، فعرفت الفاجرة محنتها ، و رأت بعينها ذبك الماءَ من الحسن الذي يجول في أديم وجهها ، جولان الراح في زجاجتها ، و علمت أنها إن وضعتها في منزلها ، فقد أحرزت غنى الدهر ، وسعادة العمر ، و ما هو الا أن ارسلت إليها بعض عقاربها ، و نفثت في نفسها بعض رقاها ، حتى غلبتها على أمرها ، و قادتها الى منزلها ، و ما هي الا عشية وضحاها ، حتى بلغت بها الغاية التي لا مفر لها و لا لأمثالها من بلوغها .
عاشت تلك البائسة في منزلها الجديد ، عيشا أشقى من عيشها الأول في منزلها القديم ، لأنها ما كانت تستطيع أن تصل الى لقمتها ، و هي كل ما حصلت عليه في حياتها الجديدة ، إلا اذا بذلت راحتها ، و شردت نومها ، وأحرقت دماغها بالسهر ، و أحشاءها بالشراب ، و صبرت على كل من يسوقه اليها حظها من سباع الرجال و ذئابهم ، على اختلاف طباعهم ، و تنوع أخلاقهم ، لأنها لم تر لها بدا من ذلك ، فاستسلمت استسلام اليائس الذي لم تترك له ضائقة العيش الى الرجاء سبيلا .
ولو أن الدهر وقف معها عند هذا الحد لهان الأمر ، و لألفت الشقاء ومرنت عليه ، كما يألفه و يمرن عليه كل من سار في الطريق التي سارت فيها ، ولكنه أبى إلا أن يسقيها الكأس الأخيرة من كؤوس شقائه ، فساق اليها ذئبا من ذئاب الرجال كان ينقم عليها شأنا من شؤون شهواته و لذاته ، فزعم أنها سرقت كيسه في إحدى لياليه التي قضاها عندها ، و رفع أمرها الى القضاء ، واستعان عليها ببعض أترابها الساقطات اللواتي كن يحسدنها ، و ينفسن عليها حسنها وبهاءها ، حتى دانها .
جاء يوم الفصل في أمرها ، فسيقت الى المحكمة و في يدها فتاتها ، و قد بلغت السابعة من عمرها ، فأخذ القاضي ينظر في القضايا و يحكم فيها بما يشاء حتى أتى دور الفتاة ، فما وقفت بين يديه ، ووقع بصرها عليه ، حتى شدهت عن نفسها ، و ألم بها من الحيرة و الدهشة ما كاد يذهب برشدها ، ذلك أنها عرفته و عرفت أن ذلك الفتى الذي كان سبب شقائها ، و علة بلائها ، فنظرت اليه نظرة شزراء ، ثم صرخت في وجهه صرخة دوى بها المكان دويا ، و قالت :
رويدك يا مولانا القاضي ! ليس لك أن تكون قاضيا في قضيتي ، فكلانا سارق ، و كلانا خائن ، و الخائن لا يقضي على الخائن ، و اللص لا يصلح أن يكون قاضيا بين اللصوص .
فعجب القاضي و الحاضرون من هذا المنظر الغريب ، و غضب لهذه الجرأة العجيبة ، و همَّ أن يدعو الشرطي لإخراجها ، فحسرت قناعها عن وجهها ، فنظر اليها نظرة ألمَّ فيها بكل شيء ، فشعر بالرعدة تتمشى في أعضائه ، و سكن في كرسيه سكون المحتضر في سرسر الموت ، و عادت الفتاة الى اتمام حديثها ، فقالت :
أنا سارقة المال ، و انت سارق العرض ، و العرض أثمن من المال ، فأنت أفجر مني جناية ، و أعظم جرما .
إن الرجل الذي سرقت ماله يستطيع أن يعزي نفسه عنه باسترداده أو الاعتياض منه ، أما الفتاة التي سرقتَ عرضها فلا عزاء لها ، لأن العرض الذاهب لا يعود .
لولاك ما سرقـْـتُ ، و لا وصلت الى ما إليه وصلت ُ ، فاترك كرسيك لغيرك ، و قف بجانبي ليحاكمنا القضاء العادل على جريمة واحدة أنت مدبرها ، و أنا المـُــسَــخـّـرة ُ فيها .
إن شريعة ً تعلم أننا شركاءُ في جريمة واحدة ، ثم تأتي بنا الى هذا المكان ، فتقف أحدنا في أشرف المواقف ، و تقف الآخر في أدناها ، لشريعة ظالمة ، ليس بينها و بين العدل نسب موصول ، أو ذمام غير منقضب .
رأيتك حين دخلت هذه القاعة ، و سمعت الحاجب يصرخ لمقدمك ، و يستنهض الصفوف للقيام لك ، و رأيت نفسي حين دخلت و ط§ظ„ط¹ظٹظˆظ† تتخطاني ، و القلوب تقتحمني ، فقلت / يا للعجب !!! كم تكذب العناوين ، و كم تخدع الألقاب ، و كم يعيش هذا العالم في ضلالة عمياء ، و جهالة جهلاء .
بخ بخ لأولئك الذين منحوك هذه الشهادة ، شهادة العلم و الفضل ، و الأخلاق و الآداب ؛ و مرحى مرحى لأولئك الذين أقعدوك هذا المقعد ، و وضعوا بين يديك هذا القانون ، و أوقفوا أمامك هذا الشرطي يأتمر بأمرك ، و ينزل على حكمك .
إن تحت هذه الثياب التي تلبسونها معشر القضاة نفوسا ليست بأقل من نفوسنا شرا ، و لا أخبث منها مذهبا ، و ربما لا يكون بيننا و بين الكثير منكم فرق الا في العناوين و الألقاب ، و الشمائل الأزياء .
أتيت بي الى هنا لتحكم علي بالسجن ، كأنْ لم يكفك ما أسلفت إلي من الشقاء ، حتى أردت أن تجيء بلا حق ، لذلك السابق .
ألم أحسن اليك بساعة من ساعات السرور فترعاها ؟ .
ألست إنسانا ذا شعور و إحساس فترثي لشقائي و بلائي ؟ .
إن لم يكن عندي وسيلة أمتّ ُ بها إليك ، فوسيلتي عندك ابنتك هذه ، فهي الصلة الباقية بيني و بينك .
فرفع القاضي رأسه ، و نظر الى ابنته الصغيرة نظرة رحمة و اشفاق ، و قد قرر في نفسه أنْ لابد له من أن ينصف تلك البائسة ، و ينتصف لها من نفسه ، غير أنه أراد أن يَـخـْــلـُــصَ من هذا الموقف خلوصا جميلا ، فأعلن أن المرأة قد أصيبت بدخل في عقلها ، و أن لا بد من إحالتها على الطبيب ، فصدق الناس قوله .
ثم قام من مجلسه بنفسٍ غير نفسه ، و قلبٍ غيرِ قلبه ، و ما هي إلا أيام قلائل حتى استقال من منصبه بحجة المرض ، و لم يزل يسعى سعيه حتى ضم اليه ابنته ، و استخلص أمها من قرارتها ، و هاجر بها الى بلد لا يعرفهما فيه أحد ، فتزوج منها ، و أنِـسَ بعشرتها ، و احترف في دار هجرته حرفة لولا مخافة أن أدل عليه إذا ذكرتها لذكرتها ، و لا يزال حتى اليوم يكفر عن سيئاته الى زوجته بكل ما يستطيعه من صنوف الرعاية ، و أنواع الكرامة ، حتى نسيا ما فات ، و لم يبق أمامهما الا ما هو آت .
عادت الفتاة إلى أهلها تحمل بين جنبيها هما يضطرب في فؤادها ، و جنينا يضطرب في أحشائها ، و قد يكون لها الى كتمان الأول سبيل ، أما الثاني فسر مذاع ، و حديث مشاع ، إن اتسعت له الصدور ، لا تتسع له البطون ، و إن ضن به اليوم ، لا يضن به الغد .
ذلك ما أسهر ليلها ، و أقض مضجعها ، و ملك عليها وجدانها و شعورها ، فلم تر لها بدا من الفرار بنفسها ، و النجاة بحياتها ، فعمدت الى ليلة من الليالي السوداء فلبستها ، و تلفعت بردائها ، ثم ألقت بنفسها في بحرها الأسود ، فما زالت أمواجها تترامى بها حتى ألقتها الى شاطئ الفجر ، فإذا هي في غرفة صغيرة في إحدى المنازل البالية ، في بعض الأحياء الخاملة ، و ذلك الجنين المضطرب .
كان لها أم تحنو عليها ، و تتفقد شأنها ، و تجزع لجزعها ، و تبكي لبكائها ، ففارقتها ؛ و كان لها أب لا هم له في حياته إلا أن يراها سعيدة في آمالها ، مغتبطة بعيشها ، فهجرت منزله ؛ و كان لها خدم يقمن عليها ، و يسهرن بجانبها ، فأصبحت لا تسامر غير هذه الوحدة ، و لا تساهر غير الوحشة ؛ و كان لها شرف يؤنسها ، و يملأ قلبها غبطة و سرورا ، و رأسها عظمة و افتخارا ، ففقدته ؛ و كان لها أمل في زواج سعيد ، من زوج محبوب ، فرزأتها الأيام في أملها .
ذلك ما كانت تناجي نفسَها به صباحَها و مساءها ، بكورها و أصائلها ، فإذا بدا لها أن تفكر في علة مصائبها ، و سبب أحزانها ، علمت أنه ذلك الفتى الذي وعدها أن يتزوجها فخدعها عن نفسها و لم يفِ بعهده لها ، فقذف بها و بكل ما تملك يدها في هذا المصير .
فلا يكاد يستقر ذلك الخاطر في فؤادها ، و يأخذ مكانه من نفسها ، حتى تشعر بجذوة نار تتقد بين جنبيها من الحقد و الموجدة على ذلك الفتى ، لأنه قتلها ، و على المجتمع الإنساني ، لأنه لا يأخذ القاتل بجريمته ، و لا يسلكه في سلسلة المجرمين .
و ما هي الا أيام قلائل حتى جاءها المخاض ، فولدت وليدتها من حيث لا ترى بين يديها من يأخذ بيدها ، أو يساعدها في خطبها ، غير عجوز من جاراتها ألمَّتْ بشأنها ، فمشت اليها و أعانتها على أمرها بضع ساعات ، ثم فارقتها تكابد على فراش مرضها ما تكابد ، و تعاني من صروف دهرها ما تعاني .
و لقد ضاق صدها ذرعا بهذا الضيف الجديد ، و هو أحب المخلوقات إليها ، و أكثرهم قربا إلى نفسها ، فجلست ذات ليلة و قد وضعت طفلتها النائمة على حجرها ، و أسندت رأسها الى كفها ،
و ظلت تقول :
ليت أمي لم تلدني ، و ليتني لم أكن شيئا .
لولا وجودي ما سعدْتّ ُ ، و لولا سعادتي ما شقيتُ .
إن كان في العالم وجود أفضلَ منه العدم فهو وجودي .
لقد كان لي قبل اليوم سبيل الى النجاة من هذه الحياة ، أما اليوم فقد أصبحتُ أمّا فلا سبيل .
أأقتل نفسي فأقتل طفلتي ؟ أم أحيا بجانبها هذه الحياة المريرة ؟ .
لا أحسب أن الموت تاركي حتى يذهب بي إلى قبري ، فماذا يكون حال طفلتي من بعدي ؟ .
إنها ستعيش من بعدي ، و تشقى في الحياة شقائي ، لا لذنب جنته ، و لا لجريمة اجترمتها ، سوى أنني أمها .
هل تعيشين أيتها الفتاة حتى تغفري لي ذنب أمومتي حينما تسمعين قصتي ، و تفهمين شكاتي ؟ .
لم يبقَ في يدي يا بنيَّتي من حليي إلا قليل ، سأبيعه كما بعت سابقه ، فماذا يكون شأني و شأنك بعد اليوم ؟ .
محال أن أعود إلى أبي فأقص عليه قصتي ، لأنه لم يبق لي مما يعزيني عن شقاء العيش و بلائه إلا أن أهلي لا يعرفون شيئا عن جريمتي ، فهم يبكونني كما يبكون موتاهم الأعزاء ، و لأنْ يبكوا مماتي خير لي و لهم من أن يبكوا حياتي .
و كذلك ظلت تلك البائسة المسكينة تحدث نفسها تارة ، و طفلتها أخرى ، بمثل هذا الحديث المحزن الأليم ، حتى غلبها صبرها على أمرها ، فأرسلت من جفنيها قطرات حارة من الدموع هي كل ما يملك الضعفاء العاجزون ، و يقدر عليه القانطون اليائسون .
دارت الأيام دورتها ، و باعت الفتاة جميع ما تملك يدها ، و ما يحمل بدنها ، و ما تشتمل عليه غرفتها ، من حلي و ثياب ، و أثاث و رياش ، و لم يبق لها الا قميصها الخَلْقُ و ملْأتها و برقعها ، و لم يبق لطفلتها الا أسمال باليات تنم عن جسمها نميمة الوجه عن السريرة ، فكانت تقضي ليلها شر قضاء ، حتى إذا طار غراب الظلام عن ِمجـْـثـَمِـهِ أسْبَلَتْ برقعها على وجهها ، و ائتزرت بمئزرها ، و أنشأتْ تطوف شوارع المدينة ، و تقطع طرقها ، لا تبغي مَقصِدا ، و لا تريد غاية ، سوى الفرارَ بنفسها من همها ، و همّـُها لا يزال يسايرها ، و يترسم مواقع أقدامها .
أحسب أن عجوزا من عجائز المواخير رأتها ، فألمت ببعض شأنها ، فاقتفت أثرها حتى دخلت غرفتها ، فوَغَلَتْ عليها ، و سألتها ما خطبها ، فأنست الفتاة عند رؤيتها ، و كذلك يأنس المصدور بنفثاته ، و البائس بشكاته ، فأصرحت لها بسرها ، و ألقت إليها بخبيئة صدرها ، و لم تترك خبرا من أخبار نعيمها ، ولا حادثا من حوادث بؤسها ، لم تحدثها به ، فعرفت الفاجرة محنتها ، و رأت بعينها ذبك الماءَ من الحسن الذي يجول في أديم وجهها ، جولان الراح في زجاجتها ، و علمت أنها إن وضعتها في منزلها ، فقد أحرزت غنى الدهر ، وسعادة العمر ، و ما هو الا أن ارسلت إليها بعض عقاربها ، و نفثت في نفسها بعض رقاها ، حتى غلبتها على أمرها ، و قادتها الى منزلها ، و ما هي الا عشية وضحاها ، حتى بلغت بها الغاية التي لا مفر لها و لا لأمثالها من بلوغها .
عاشت تلك البائسة في منزلها الجديد ، عيشا أشقى من عيشها الأول في منزلها القديم ، لأنها ما كانت تستطيع أن تصل الى لقمتها ، و هي كل ما حصلت عليه في حياتها الجديدة ، إلا اذا بذلت راحتها ، و شردت نومها ، وأحرقت دماغها بالسهر ، و أحشاءها بالشراب ، و صبرت على كل من يسوقه اليها حظها من سباع الرجال و ذئابهم ، على اختلاف طباعهم ، و تنوع أخلاقهم ، لأنها لم تر لها بدا من ذلك ، فاستسلمت استسلام اليائس الذي لم تترك له ضائقة العيش الى الرجاء سبيلا .
ولو أن الدهر وقف معها عند هذا الحد لهان الأمر ، و لألفت الشقاء ومرنت عليه ، كما يألفه و يمرن عليه كل من سار في الطريق التي سارت فيها ، ولكنه أبى إلا أن يسقيها الكأس الأخيرة من كؤوس شقائه ، فساق اليها ذئبا من ذئاب الرجال كان ينقم عليها شأنا من شؤون شهواته و لذاته ، فزعم أنها سرقت كيسه في إحدى لياليه التي قضاها عندها ، و رفع أمرها الى القضاء ، واستعان عليها ببعض أترابها الساقطات اللواتي كن يحسدنها ، و ينفسن عليها حسنها وبهاءها ، حتى دانها .
جاء يوم الفصل في أمرها ، فسيقت الى المحكمة و في يدها فتاتها ، و قد بلغت السابعة من عمرها ، فأخذ القاضي ينظر في القضايا و يحكم فيها بما يشاء حتى أتى دور الفتاة ، فما وقفت بين يديه ، ووقع بصرها عليه ، حتى شدهت عن نفسها ، و ألم بها من الحيرة و الدهشة ما كاد يذهب برشدها ، ذلك أنها عرفته و عرفت أن ذلك الفتى الذي كان سبب شقائها ، و علة بلائها ، فنظرت اليه نظرة شزراء ، ثم صرخت في وجهه صرخة دوى بها المكان دويا ، و قالت :
رويدك يا مولانا القاضي ! ليس لك أن تكون قاضيا في قضيتي ، فكلانا سارق ، و كلانا خائن ، و الخائن لا يقضي على الخائن ، و اللص لا يصلح أن يكون قاضيا بين اللصوص .
فعجب القاضي و الحاضرون من هذا المنظر الغريب ، و غضب لهذه الجرأة العجيبة ، و همَّ أن يدعو الشرطي لإخراجها ، فحسرت قناعها عن وجهها ، فنظر اليها نظرة ألمَّ فيها بكل شيء ، فشعر بالرعدة تتمشى في أعضائه ، و سكن في كرسيه سكون المحتضر في سرسر الموت ، و عادت الفتاة الى اتمام حديثها ، فقالت :
أنا سارقة المال ، و انت سارق العرض ، و العرض أثمن من المال ، فأنت أفجر مني جناية ، و أعظم جرما .
إن الرجل الذي سرقت ماله يستطيع أن يعزي نفسه عنه باسترداده أو الاعتياض منه ، أما الفتاة التي سرقتَ عرضها فلا عزاء لها ، لأن العرض الذاهب لا يعود .
لولاك ما سرقـْـتُ ، و لا وصلت الى ما إليه وصلت ُ ، فاترك كرسيك لغيرك ، و قف بجانبي ليحاكمنا القضاء العادل على جريمة واحدة أنت مدبرها ، و أنا المـُــسَــخـّـرة ُ فيها .
إن شريعة ً تعلم أننا شركاءُ في جريمة واحدة ، ثم تأتي بنا الى هذا المكان ، فتقف أحدنا في أشرف المواقف ، و تقف الآخر في أدناها ، لشريعة ظالمة ، ليس بينها و بين العدل نسب موصول ، أو ذمام غير منقضب .
رأيتك حين دخلت هذه القاعة ، و سمعت الحاجب يصرخ لمقدمك ، و يستنهض الصفوف للقيام لك ، و رأيت نفسي حين دخلت و ط§ظ„ط¹ظٹظˆظ† تتخطاني ، و القلوب تقتحمني ، فقلت / يا للعجب !!! كم تكذب العناوين ، و كم تخدع الألقاب ، و كم يعيش هذا العالم في ضلالة عمياء ، و جهالة جهلاء .
بخ بخ لأولئك الذين منحوك هذه الشهادة ، شهادة العلم و الفضل ، و الأخلاق و الآداب ؛ و مرحى مرحى لأولئك الذين أقعدوك هذا المقعد ، و وضعوا بين يديك هذا القانون ، و أوقفوا أمامك هذا الشرطي يأتمر بأمرك ، و ينزل على حكمك .
إن تحت هذه الثياب التي تلبسونها معشر القضاة نفوسا ليست بأقل من نفوسنا شرا ، و لا أخبث منها مذهبا ، و ربما لا يكون بيننا و بين الكثير منكم فرق الا في العناوين و الألقاب ، و الشمائل الأزياء .
أتيت بي الى هنا لتحكم علي بالسجن ، كأنْ لم يكفك ما أسلفت إلي من الشقاء ، حتى أردت أن تجيء بلا حق ، لذلك السابق .
ألم أحسن اليك بساعة من ساعات السرور فترعاها ؟ .
ألست إنسانا ذا شعور و إحساس فترثي لشقائي و بلائي ؟ .
إن لم يكن عندي وسيلة أمتّ ُ بها إليك ، فوسيلتي عندك ابنتك هذه ، فهي الصلة الباقية بيني و بينك .
فرفع القاضي رأسه ، و نظر الى ابنته الصغيرة نظرة رحمة و اشفاق ، و قد قرر في نفسه أنْ لابد له من أن ينصف تلك البائسة ، و ينتصف لها من نفسه ، غير أنه أراد أن يَـخـْــلـُــصَ من هذا الموقف خلوصا جميلا ، فأعلن أن المرأة قد أصيبت بدخل في عقلها ، و أن لا بد من إحالتها على الطبيب ، فصدق الناس قوله .
ثم قام من مجلسه بنفسٍ غير نفسه ، و قلبٍ غيرِ قلبه ، و ما هي إلا أيام قلائل حتى استقال من منصبه بحجة المرض ، و لم يزل يسعى سعيه حتى ضم اليه ابنته ، و استخلص أمها من قرارتها ، و هاجر بها الى بلد لا يعرفهما فيه أحد ، فتزوج منها ، و أنِـسَ بعشرتها ، و احترف في دار هجرته حرفة لولا مخافة أن أدل عليه إذا ذكرتها لذكرتها ، و لا يزال حتى اليوم يكفر عن سيئاته الى زوجته بكل ما يستطيعه من صنوف الرعاية ، و أنواع الكرامة ، حتى نسيا ما فات ، و لم يبق أمامهما الا ما هو آت .
روعة مرررررهـ
قصة مؤثرة
تنقل للقسم المناسب
القصص و الروايات
هديل المحبه
اسعدني تواجدك الجميل
يسلموو يالغلا وينقل للقسم المناسب
قصه مؤثره حقآ
ادمعت منه الأعين
تحيااتي لك
يسلموو ربي يعطيكي العااااااافيه
اسعدتموني بتواجدكم الجميل
لكم مني فائق الاحترام
يعطيك العافيه
لاعدمناك
دمت بخير