الآدابُ المتعلِّقةُ بسُكنى المدينة:
فإنَّ مَن وفَّقه الله لِسُكنى هذه ط§ظ„ظ…ط¯ظٹظ†ط© المباركة طَيْبَة الطيِّبة عليه أن يستشعرَ أنَّه ظَفِرَ بنعمةٍ عظيمةٍ ومِنَّةٍ جسيمةٍ، فيشكر اللهَ على هذه النِّعمة، ويَحمدُه على هذا الفضل والإحسان، وعليه أن يستشعرَ أنَّ كثيرين من سُكَّان المعمورَة يشتَدُّ شوقُهم إلى أن يظفَروا بالوصولِ إلى مكَّةَ والمدينة والبقاء فيهما ولو فترةً يسيرة، وفيهم مَن يجمَع النُّقودَ القليلة بعضها إلى بعض سنواتٍ طويلةٍ لتتحقَّقَ له هذه الأُمنيةَ، وأذكرُ أنَّ أحدَ علماء الهند ذكر أنَّ الحُجَّاجَ الهنودَ فيما مضى كانوا يأتون على السُّفُن الشراعية، ويَمكثون في البحرِ في طريقهم إلى مكَّةَ والمدينة مُدَّة طويلة، وأنَّ جماعةً منهم كانوا في سفينةٍ، فلَمَّا رأوا البَرَّ الذي فيه مكَّةَ والمدينة سَجَدوا لله شكراً على ظهرِ السفينةِ.وإنَّ لسُكنى هذه المدينة آداباً منها:
أوَّلاً:أن يُحبَّ المسلمُ هذه المدينةَ لفضلِها، ولِمَحبَّةِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – إيَّاها، روى البخاريُّ في صحيحه عن أنسٍ رضي الله عنه:
(( أنَّ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – كان إذا قَدِمَ من سَفرٍ فنظَرَ إلى جُدُراتِ المدينة أوضَعَ راحِلَتَه، وإن كان على دابَّةٍ حرَّكها من حُبِّها )).
ثانياً: أن يَحرِصَ المسلمُ على أن يكون في هذه المدينة مستقيماً على أمر الله، مُلتَزِماً بطاعة الله وطاعةِ رسوله – صلى الله عليه وسلم -، شديدَ الحَذَرِ من أن يقعَ في البدَع والمعاصي، فإنَّ الحسناتِ في هذه المدينة لها شأنٌ عظيمٌ، والبِدع والمعاصي فيها ذاتُ خطرٍ كبيرٍ، فإنَّ من يعصي الله في الحَرَم ذنبُه أعظمُ وأشدُّ مِمَّن يعصيه في غير الحَرَم، والسيِّئات لا تُضاعَف فيه بكمِيَّاتِها، ولكنَّها تضخُم وتَعظُم بفعلها في الحرم.
ثالثاً: أن يَحرصَ المسلمُ في هذه المدينة على أن يكون له نصيبٌ كبيرٌ من تجارةِ الآخرة التي تكون الأرباحُ فيها أضعافاً مضاعفةً، وذلك بأن يُصلِّيَ ما أمكنه من الصلوات في مسجد الرَّسول – صلى الله عليه وسلم -؛ ليُحصِّلَ الأجرَ العظيمَ الموعودَ به في قولِه – صلى الله عليه وسلم -: (( صلاةٌ في مسجدي هذا خيرٌ من ألفِ صلاةٍ فيما سِواه إلاَّ المسجد الحرام ))،
رواه البخاري ومسلم.
رابعاً: أن يكون المسلمُ في هذه المدينة المباركة قُدوةً حسنةً في الخير،؛ لأنَّه يُقيمُ في بلدٍ شَعَّ منه النورُ، وانطلقَ منه الهُداةُ المصلِحون إلى أنحاء المعمورة، فيَجدَ مَن يَفِدُ إلى هذه المدينة في ساكنيها القدوةَ الحسنةَ والاتِّصافَ بالصفاتِ الكريمة والأخلاقِ العظيمة، فيعود إلى بلدِه متأثِّراً مستفيداً لِمَا شاهدَه من الخيرِ والمحافظةِ على طاعةِ الله وطاعةِ رسولِه – صلى الله عليه وسلم -، وكما أنَّ الوافدَ إلى هذه المدينة يستفيدُ خيراً وصلاحاً بِمشاهدة القُدوة الحسنة في هذا البلد المبارك، فإنَّ الأمرَ يكون بالعكس عندما يُشاهدُ في المدينة مَن هو على خلاف ذلك، فبدلاً من أن يكون مستفيداً حامداً يكون مُتضرِّراً ذامًّا.
خامساً: أن يَتذكَّر المسلمُ وهو في هذه المدينة أنَّه في أرضٍ طيِّبة هي مَهْبَطُ الوحي ومَأرِزُ الإيمان ومَدْرَجُ الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم – وصحابته الكرام من المهاجرين والأنصار، درَجوا على هذه الأرض وتحرَّكوا فيها على خير واستقامةٍ والتزام بالحقِّ والهدى، فيحذر أن يتحرَّك عليها تحرُّكاً يُخالف تحرُّكَهم بأن يكون تحرُّكُه فيها على وجهٍ يُسخِطُ الله عزَّ وجلَّ ويعود عليه بالمضرَّة والعاقبة الوخيمةِ في الدنيا والآخرة.
سادساً: أن يحذرَ مَن وفَّقه الله لسُكنى المدينة أن يُحدثَ فيها حَدَثاً أو يُؤوي مُحدثاً فيتعرَّضَ للَّعن؛ لأنَّه ثبت عن الرسول – صلى الله عليه وسلم – أنَّه قال: (( المدينةُ حَرَمٌ، فمَن أَحدَث فيها حَدَثاً أو آوَى مُحدِثاً فعليه لعنةُ الله والملائكةِ والنَّاسِ أجمعين، لا يُقبل منه يوم القيامة عَدْلٌ ولا صَرفٌ ))،
رواه مسلم
سابعاً: أن لا يتعرَّض في المدينة لقطعِ شَجَرٍ أو اصطِيادِ صيدٍ؛ لِمَا وردَ في ذلك من الأحاديث عن الرسول – صلى الله عليه وسلم -،كقولِه – صلى الله عليه وسلم -: (( إنَّ إبراهيمَ حرَّم مكَّةَ، وإنِّي حرَّمتُ المدينةَ ما بين لابتيها، لا يُقطَع عِضاهُها، ولا يُصادُ صيدُها ))،
رواه مسلم
وروى مسلمٌ أيضاً من حديث سَعد بن أبي وقَّاص رضي الله عنه: أنَّ
النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – قال: (( إنِّي أُحرِّم ما بين لابَتَي المدينة أن يُقطَع عِضاهُها، أو يُقتل صيدُها ))،
وفي الصحيحين عن عاصم بن سليمان الأحول قال:
(( قلتُ لأنسٍ: أَحَرَّم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – المدينةَ؟ قال: نعم، ما بين كذا إلى كذا لا يُقطَع شجرُها، مَن أحدث فيها حدَثاً فعليه لعنةُ الله والملائكة والنَّاس أجمعين )).
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّه كان يقول:
(( لو رأيتُ الظِّباءَ بالمدينة ترتَع ما ذَعَرتُها، قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ما بين لابتيْها حرامٌ )).
والمرادُ بالشجر الذي يَحرُم قطعُه هو الذي أنبته الله عزَّ وجلَّ، أمَّا ما زرعه النَّاسُ وغرسوه فإنَّ لهم قطعَه
ثامناً: أن يصبرَ المسلمُ على
ما يحصُلُ له فيها من ضيقِ عيشٍ أو بلاءٍ أو لأواءٍ؛ لقوله – صلى الله عليه
وسلم – من حديث أبي هريرةَ رضي الله عنه: (( لا يصبِرُ على لأواءِ المدينة
وشِدَّتِها أَحدٌ من أُمَّتي، إلاَّ كنتُ له شفيعاً يوم القيامة أو شهيداً
))،رواه مسلم.
وفي صحيح مسلم أيضاً أنَّ أبا سعيد مولى المَهْريِّ جاء
أبا سعيدٍ الخُدري لياليَ الحرَّة، فاستشارَه في الجَلاءِ من المدينة،
وشكا إليه أسعارَها وكثرةَ عيالِه، وأخبرَه أن لا صبرَ له على جَهدِ
المدينة ولأوائها، فقال له:
(( وَيْحَكَ! لا آمرُكَ بذلك، إنِّي سمعتُ رسول
الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: لا يَصبِرُ أَحدٌ على لأوائها فيموت
إلاَّ كنتُ له شفيعاً يوم القيامة، إذا كان مسلماً )).
تاسعاً: أن
يحذَرَ إيذاءَ أهلِها، فإنَّ إيذاء المسلمين في كلِّ مكانٍ حرامٌ، ولكنَّه
في البلد المُقدَّس أشدُّ وأعظمُ، فقد روى البخاريُّ في صحيحه عن سَعد بن
أبي وقَّاصٍ رضي الله عنه قال: سمِعتُ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم –
يقول:
(( لا يَكيدُ أهلَ المدينة أحدٌ إلاَّ انْمَاعَ كما يَنماعُ المِلحُ في الماءِ )).
وروى
مسلمٌ في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله – صلى الله
عليه وسلم -: (( مَن أراد أهلَ هذه البلدة بسوءٍ ـ يعني المدينةَ ـ أذابَه
اللهُ كما يذوبُ المِلحُ في الماء )).
عاشراً: أن لا يغتَرَّ ساكنُ
المدينة بكونِه من سُكَّانها، فيقول: (( أنا مِن سُكَّان المدينة، فأنا على
خيرٍ ))، فإنَّ مُجرَّدَ السُكنى إذا لَم يكن معها عملٌ صالِحٌ واستقامةٌ
على طاعة الله ورسولِه – صلى الله عليه وسلم -، وبُعدٌ عن الذنوبِ والمعاصي
لا يُفيدُه شيئاً، بل يعودُ عليه بالضَّرَرِ، وفي موطأ الإمام مالك أنَّ
سَلمان الفارسيَّ رضي الله عنه قال:
(( إنَّ الأرضَ لا تُقدِّسُ أحداً،
وإنَّما يُقدِّسُ الإنسانَ عَملُه ))،
وسنده فيه انقطاع، لكن معناه صحيح،
وهو خبَرٌ مطابقٌ للواقع،
وقد قال الله عزَّ وجلَّ: {إنَّ أَكْرَمَكُمْ
عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ}، ومِن المعلومِ أنَّ المدينةَ في مُختَلَف العصور
فيها الأخيار وفيها الأشرار، فالأخيارُ تنفعُهم أعمالُهم، والأشرارُ لَم
تُقدِّسهم المدينةُ، ولَم ترفع من شأنِهم، وهذا كالنَّسَب، فمُجرَّد كون
الإنسانِ نسيباً بدون عملٍ صالِحٍ فإنَّ ذلك لا ينفعُه عند الله؛ لقولِه –
صلى الله عليه وسلم -: (( ومَن بَطَّأَ به عملُه لَم يُسرِع به نسبُه ))،
رواه مسلمٌ في صحيحه،
فمَن أخَّرَه عملُه عن دخول الجَنَّةِ لَم يكن نسبُه
هو الذي يُسرعُ به إليها.
حادي عشر: أن يَسْتَشعرَ المسلمُ وهو في هذه
المدينة أنَّه في بلدٍ شَعَّ منه النُّور وانتشرَ منه العِلمُ النَّافع إلى
أنحاء المعمورة، فيحرِصَ على تحصيل العلم الشرعيِّ الذي يسيرُ به إلى الله
على بصيرةٍ ويدعو غيرَه إليه على بصيرةٍ، لا سيما إذا كان طلبُ العلم في
مسجد رسول الله – صلى الله عليه وسلم -؛ لحديث أبي هريرةَ رضي الله عنه
أنَّه سَمِع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول:
(( مَن دخل مسجدَنا
هذا يتعلَّمُ خيراً أو يُعلِّمه كان كالمجاهدِ في سبيلِ الله، ومَن دخلَه
لغير ذلك كان كالنَّاظرِ إلى ما ليس له ))،
رواه أحمد وابن ماجه وغيرُهما،
فإذا جاء الزائرُ إلى قَبْرِ
الرَّسول – صلى الله عليه وسلم – وقَبْرَيْ صاحِبيهِ رضي الله عنهما فإنَّه
يأتي مِن الجِهَةِ الأَمَاميَّة فيَستَقْبلُ القبْرَ، ويزورُ زيارةً
شرعيَّةً، ويَحذَرُ مِن الزِّيارةِ البِدعية، فالزيارةُ الشرعيَّةُ أن
يُسلِّمَ على النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – ويدعو له بأَدَبٍ وخَفْضِ
صوتٍ، فيقول: السلامُ عليكَ يا رسول الله ورحمةُ الله وبركاتُه صلّى اللهُ
وسلَّم وبارك عليكَ، وجزاك أفضلَ ما جَزَى نَبِياًّ عن أُمَّته، ثمَّ
يُسلِّم على أبي بَكرٍ رضي الله عنه ويَدعو له، ثمَّ يُسلِّم على عمرَ رضي
الله عنه ويدعو له
منقوووول للافادة
جزيتي خيرا
وجزاكي الله اجره
نورتي